ليعبدون
﴿وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلّا لِيَعبُدونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]
الله خلق الانس والجن ليعبدوه، ولكن هل العبادة تعني الصلاة والصوم طوال الوقت؟ كما نعرف مما علمنا الله في كتابه ومن سنة رسوله ﷺ، الغلو في الدين ليس من شرع الله.
عن رسول الله ﷺ “أنَّه بلغَهُ أنَّ رِجالًا يقولُ أحدُهم : أمَّا أنا فأصومُ ولا أفطرُ . ويقولُ الآخرُ : وأمَّا أنا فأقومُ ولا أنامُ . ويقولُ الآخرُ : أمَّا أنا فلا آكلُ اللَّحمَ ، ويقولُ الآخرُ : أمَّا أنا فلا أتزوَّجُ النِّساءَ. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : لكنِّي أصومُ وأُفطرُ ، وأقومُ وأنامُ ، وآكلُ اللَّحمَ ، أتزوَّجُ النِّساءَ . فمَنْ رغِبَ عن سنَّتي فليس منِّي”
الله لم يأمرنا بعبادته عن طريق الصيام بلا فطور ولا الصلاة بلا راحة ولا الاعتزال عن أكل رزقه والتنعم بنعيمه. ولكن هذا لا يعني أن الله يأمرنا بأن “نرتاح من عبادته” ولكن هذا يعني أن الغلو بهذه الأعمال لا يندرج تحت عبادة الله المثلى.
﴿هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ ذَلولًا فَامشوا في مَناكِبِها وَكُلوا مِن رِزقِهِ وَإِلَيهِ النُّشورُ﴾ [الملك: ١٥]
في هذه الآية وآيات أخرى تشبهها نستدل بحث الله عباده على المشي في أرضه والأكل من رزقه. التأمل والتمتع بخلق الله من عبادة الله، وليست من العبادات الثانوية، الآيات التي تحض على السير في الأرض والتفكر بعظمة الله كثيرة.
﴿الَّذينَ يَذكُرونَ اللَّهَ قِيامًا وَقُعودًا وَعَلى جُنوبِهِم وَيَتَفَكَّرونَ في خَلقِ السَّماواتِ وَالأَرضِ رَبَّنا ما خَلَقتَ هذا باطِلًا سُبحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾ [آل عمران: ١٩١]
﴿وَالأَنعامَ خَلَقَها لَكُم فيها دِفءٌ وَمَنافِعُ وَمِنها تَأكُلونَ وَلَكُم فيها جَمالٌ حينَ تُريحونَ وَحينَ تَسرَحونَ﴾ [النحل: ٥-٦]
﴿وَكُلوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذي أَنتُم بِهِ مُؤمِنونَ﴾ [المائدة: ٨٨]
﴿أَفَلَم يَنظُروا إِلَى السَّماءِ فَوقَهُم كَيفَ بَنَيناها وَزَيَّنّاها وَما لَها مِن فُروجٍ﴾ [ق: ٦]
﴿أَفَلَم يَسيروا فِي الأَرضِ فَتَكونَ لَهُم قُلوبٌ يَعقِلونَ بِها أَو آذانٌ يَسمَعونَ بِها فَإِنَّها لا تَعمَى الأَبصارُ وَلكِن تَعمَى القُلوبُ الَّتي فِي الصُّدورِ﴾ [الحج: ٤٦]
﴿قُل سيروا فِي الأَرضِ فَانظُروا كَيفَ بَدَأَ الخَلقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ﴾ [العنكبوت: ٢٠]
فالسير في الأرض يتيح لنا رؤية بدع البديع وعزة البارئ المصور في عظمة وتمام خلقه. فعظمة الجبال والبحار وجمال الغابات والأنهار تشير لما هو أعظم وأجمل مما عين رأت أو أذن سمعت. والاستشعار بنعم الله يعلمنا عن رحمة الله وعطائه وكرمه، الأكل من رزقه يقوينا لإقامة دينه وكذلك يعرّفنا عن الرحمن عن طريق معرفة حسن وطيب خلقه وقدرته على إنبات الأصناف المتنوعة من ماء واحد لينشئ شيئًا عجبًا من لا شيء.
﴿وَإِذ قالَ رَبُّكَ لِلمَلائِكَةِ إِنّي جاعِلٌ فِي الأَرضِ خَليفَةً قالوا أَتَجعَلُ فيها مَن يُفسِدُ فيها وَيَسفِكُ الدِّماءَ وَنَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنّي أَعلَمُ ما لا تَعلَمونَ﴾ [البقرة: ٣٠]
الله خلق الإنس والجن ليعبدون، ولكن ليس كما تسبحه وتقدسه الملائكة.
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُم عَلَى المَلائِكَةِ فَقالَ أَنبِئوني بِأَسماءِ هؤُلاءِ إِن كُنتُم صادِقينَ قالوا سُبحانَكَ لا عِلمَ لَنا إِلّا ما عَلَّمتَنا إِنَّكَ أَنتَ العَليمُ الحَكيمُ قالَ يا آدَمُ أَنبِئهُم بِأَسمائِهِم فَلَمّا أَنبَأَهُم بِأَسمائِهِم قالَ أَلَم أَقُل لَكُم إِنّي أَعلَمُ غَيبَ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَأَعلَمُ ما تُبدونَ وَما كُنتُم تَكتُمونَ﴾ [البقرة: ٣١-٣٣]
عظمة خلق الإنسان هي بمقدرته على معرفة خلق الرحمن، معرفة الخير والشر وما بينهمها وما دونهما من التناقضات ومعرفة ذلول الأرض ومن عليها ومعرفة كمال الله تعالى وصفاته واسمائه الحسنى.
تعرف الأشياء بنقاضئها. يعرف الخير بالشر كمان يعرف الكرم بالبخل والشجاعة بالجبن. ولكن الصفات البشرية لا تتصف بالكمال، فما يراه البعض كرمًا يراه الآخر إسرافًا وتفريطًا وما يراه البعض شجاعةً يراه الآخر تهورًا وطيشًا. وكذلك ما يراه البعض بخلًا يراه الآخر تأهبًا أو بصيرة وما يراه البعض جبنًا يراه الآخر حذرًا أو رزانة. في حقيقة الأمر، كل صفة في الإنسان ينتج عنها الحسن القبيح. النزعة الداخلية التي تدفعنا على الشجاعة هي ذاتها التي قد تدفعنا للتهور والغريزة التي تدفعنا إلى الحرص هي التي قد تسبب الجبن أو البخل. لذا علينا أن نوازن هذه الصفات والنزعات لئلا تؤدي إلى ما هو مذموم.
الصفات الكاملة لا تكون الا عند الله عز وجل. وما أنزل الله على خلقه الا أجزاءً من صفاته الكملى العليا.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «جَعَلَ اللهُ الرحمةَ مائة جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وأَنْزَلَ في الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الخَلَائِقُ، حتى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ»
وعن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ مئةَ رحمةٍ كُلُّ رحمةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إلى الأَرْضِ، فَجَعَلَ منها في الأَرْضِ رَحْمَةً فبها تَعْطِفُ الوَالِدَةُ على وَلَدِهَا، والوَحْشُ والطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فإذا كانَ يومُ القيامةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِه الرحمةِ»
وكما أنزل الرحمن رحمته على الخلق، خلق الله الصفات جميعًا وكتب على نفسه أحسن وأكرم الصفات. وما أنزله الله على عباده من سمات ما هي الا جزء مجزء لا يساوي كمال الواسع. ولكن خلال معرفة خلق الله نعرف الله.
﴿أَوَلَم يَتَفَكَّروا في أَنفُسِهِم ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالأَرضَ وَما بَينَهُما إِلّا بِالحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثيرًا مِنَ النّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِم لَكافِرونَ﴾ [الروم: ٨]
﴿وَمِن آياتِهِ أَن خَلَقَ لَكُم مِن أَنفُسِكُم أَزواجًا لِتَسكُنوا إِلَيها وَجَعَلَ بَينَكُم مَوَدَّةً وَرَحمَةً إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَومٍ يَتَفَكَّرونَ﴾ [الروم: ٢١]
لكي نعرف رحمة الرحمن ومودة الودود علينا أن نعرف الرحمة والودة والأنس بأنفسنا، ولكي نعرف عظمة العظيم علينا أن نرى عظمة خلق الله، ولكي نعرف الرحمة وجب وجود نقيضها من القسوة والظلم ولكي نعرف عزة العزيز الجبار القهار المتكبر وجد ضعف وعجز وذل عباده.
﴿أَوَلَم يَسيروا فِي الأَرضِ فَيَنظُروا كَيفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذينَ مِن قَبلِهِم كانوا أَشَدَّ مِنهُم قُوَّةً وَأَثارُوا الأَرضَ وَعَمَروها أَكثَرَ مِمّا عَمَروها وَجاءَتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظلِمَهُم وَلكِن كانوا أَنفُسَهُم يَظلِمونَ﴾ [الروم: ٩]
ولكن مهما سرنا في الأرض ومهما تأملنا في أنفسنا وفي الخلق، لن نعرف الله حق معرفته في الحياة الدنيا. نحن نتطلع ونتشوق لمعرفة الله لائجين لنور الله تعالى أملًا بأن نفوز بالفوز الأعظم والنعيم الأعلى وهو النظر إلى وجه ربنا ذو الجلال والإكرام.
عن صهيب بن سنان رضي الله عنه مرفوعاً: «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله -تبارك وتعالى-: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبُيِّضْ وُجُوهنا؟ ألم تُدْخِلْنَا الجنة وتُنَجِّنَا من النار؟ فيكشف الحِجَاب، فما أُعْطُوا شيئا أحَبَّ إليهم من النظر إلى ربهم» [صحيح مسلم]
﴿وُجوهٌ يَومَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢-٢٣