بنو تراب
خُلق الإنسان من تراب وإليه سيعود. وما بين ولادته وموته أيضًا يعيش كالتراب. من التراب يخرج النبات وتنمو الشجار والثمار، ومن التراب تزهر الزهور ويفوح الأريج. وكذلك البشر، يعمّرون الأرض فتنمو البنيان والبلدان وتزخرف القصور والأشعار وتفوح الفنون والحنون. رغم ذلك الا أن التراب وهن وضيع. يدعس عليه الناس بأرجلهم ولا يقدر حتى على الهواء. ولكن رغم ضعفه الا أنه أتى من صخور قاسية، وحين تفتفت وتفرق واختلط مع الغثاء أصبح ترابًا ورملًا. والبشر كالتراب بهيأتهم… ضعفاء، زلة رجل قد تحتف بهم وعضة سبع تنهش بهم. ورغم ضعف أفرادهم الا أن عند وحدتهم معًا يجمعون قوتهم ويكونون مجتمعات وحضارات قائمًا صامدة كالصخور والحجارة.
من التراب أتى الإنسان، وكما يخرج النبات من الأرض، يُعمّر الإنسان الأرض. ولكن علاقة الإنسان بالتراب ليست محدودة بالقصص والأمثلة والتشابهات بل علاقة الإنسان بالتراب تمتد إلى منظور العلوم الطبيعية. كل طعام تأكله يعود أصله للتراب. نباتًا كان أم حيوانًا كلاهما يعتمد على الآخر، فالحيوانات تأكل بعضها البعض والنبات الذي يخرج من التراب، ومنهما يتغذى الإنسان فينمو جسده ويصبح قادرًا على التكاثر. فحياة الإنسان تبدأ في أبويه قبل أن يتكوّن جنينه في رحم أمه، ولكي تستطيع الأم أن تحمل طفلًا داخلها، يجب أن تأكل مما تنبت الأرض والذي سيصبح نطفةً فعلقة فمضغة ثم طفلًا.
علاقتنا بالتراب تذكير لنا لأصلنا. رغم أن التراب تخرج منه البساتين والغابات، الا أنه تراب. لا يطغى ولا يتكبر على الشجر والنخيل، بل يظل التراب على الأرض متواضعًا خافضًا جناح الذل لكي تظلنا الشجار بظلها. ولا يكترث التراب لدهس الناس، وإن كان تحت أرجل الناس قالبًا، فهو قلبًا يستوي متكرمًا بمحله في الكون. فالتراب يعرف مكانه ودوره بين خلق الله، فلو تخلى عن مركزه وألحد عن محوره، لاختل توازن الطبيعة.
﴿إِنَّما مَثَلُ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍ أَنزَلناهُ مِنَ السَّماءِ فَاختَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرضِ مِمّا يَأكُلُ النّاسُ وَالأَنعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الأَرضُ زُخرُفَها وَازَّيَّنَت وَظَنَّ أَهلُها أَنَّهُم قادِرونَ عَلَيها أَتاها أَمرُنا لَيلًا أَو نَهارًا فَجَعَلناها حَصيدًا كَأَن لَم تَغنَ بِالأَمسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَتَفَكَّرونَ﴾ [يونس: ٢٤]
﴿وَاضرِب لَهُم مَثَلَ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍ أَنزَلناهُ مِنَ السَّماءِ فَاختَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرضِ فَأَصبَحَ هَشيمًا تَذروهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ مُقتَدِرًا﴾ [الكهف: ٤٥]
ولكن ليس للتراب حيلة بلا الماء. ومثل الحياة الدنيا هو الماء. الماء الذي يختلط بالتراب فيخرج منه النبات. والإنسان يختلط بالدنيا فيعيش ويسعى بالأرض. ثم بحياته في الأرض يعمل ويعمّر ويجمع القناطير ويكنز ما يمكنه من زينة الحياة الدنيا. فتأتي الرياح فتذر نبات الأرض كما يأتي الزمان على ما كدسه الإنسان فيصبح هشيمًا يتسرب من بين يده فيعود إلى التراب خالي اليدين. فالنبات هو كل ما يجمعه من زينة الحياة الدنيا وكل زخرف يغتر به، وأما الماء فهي الحياة الدنيا ذاتها. ولكن ما هي طبيعة الماء؟
الماء ليس له هيأة ثابتة، فهو يأخذ شكله قالبه. وحتى سماته تتغير بسكونه وجريانه. حين سكونه يعكس النور والصور أوضح من عند جريانه. وكيفية تفاعله مع ما حوله من دفع والتفاف يتأثر بسرعة جريانه وقوة ضغطه. أحيانًا نجد الماء ساكنًا في بركة عكرة لا نرى قاعها رغم ضحلها ومرات نجد الماء ساكنًا في بحيرة يسهل لنا أن نرى انعكاسنا. وكذلك نجد الماء أمواج كالجبال في البحار أو تيارات عنيفة في الأنهار. الماء الجاري يمثل الجريان الدائم للحياة. فرغم ألفتنا لبعض ما نلتقي به في الحياة، فلا شيء يبقى كما كان، كل شيء في حالة تغيّر مستمر. بعض الأشياء تتغير بسرعة فلا نميزها بكل مرة نلتقي بها وبعض الأشياء تتغير ببطء شديد لا نلاحظ تغيرها.
وكما يمثل جريان المياه جريان الحياة، ركود المياه يمثل صفاء وهدوء الحياة. عند ركود أسطحة الماء الانعكاسات توازي ما حولها ولكنها لا تطابقه تمامًا، وهذا التموج يمثل طبيعة الحياة المُمَوّجة. قد يبدو الواقع الملموس ثابت راسخ، ولكن بالحقيقة لا يوجد مرساة لحقيقة ثابتة لما حولنا سوى المفاهيم المجردة في أذهاننا. وإن كان المدروك واحد فالأبصار لا تتوافق، وحتى حين تجتمع الأبصار تختلف العقول بتفسيره وبالتالي لن يكون الإدراك نفسه. نحن لا نرى بأعيننا وحسب، بل بعلمنا وماضينا ومعتقداتنا أيضًا وبهم نحلل ما تدركه حواسنا ونعقله. عندما يرى اثنان ثعلبًا، فالصيّاد قد يرى فروًا لمعطف جديد وأما المزارع قد يخاف على دواجنه وزرعه. واختلاف الإدراك لا يكون فقط باختلاف الأشخاص، فالإنسان نفسه يتغير بتعلمه وتجاربه فيتغير منظوره وتأويله بما يبصر ويسمع. وبهذا نرى كيف أن أدراكنا سائل يسيل مع سيلان الحياة. وسيلان الحياة ليس بمستقر، يسهل رؤية الانعكاسات عند ركود الماء، ولكن حتى حين يعصف الموج من كل جانب، تظل الطمأنينة تحت الأسطح. وحين تشتد الحياة بنا يصعب علينا إدراك حقيقة الحياة، فعلينا الغوص تحت الماء وبأنفسنا لنستشعر السكينة والطمأنينة.
عند الغوص بأنفسنا نحيط بطبيعة الدنيا المائية وبطبيعتنا الترابية ونستشعر بأثر الدهر عليهما كالرياح الذاريات. ويجب علينا نسلّم لطبيعتنا وأصلنا. حين رضانا بخلقتنا وضعفنا سنستشعر بملكوت الله. ضعفنا ليس محصورًا على الإنسان فكل ما في الارض والسماوات وما بينهما خاضعًا لملكوت الله عز وجل. وحين نسلم لملك الله نرى مكانتنا بين الخلق ونرى عظمة تدبير الرحمن فيما كتبه لخلقه برزقهم وبوضعهم بمواقعهم وأزمانهم وبتسخيره خلقه بعضهم لبعض فيما كان فيه خيرًا أو شرًا لهم. نحن التراب ولكن ليس كل ما ينبت من الأرض ينبت منا، ولكن جميعنا نخرج من جذور تحت الأرض وجميع جذور الخلق تربطها صلة رحمة الرحمن وينير الله بنوره على السماوات والأرض فيخرج منهما كل خير وشر.
يا بنو ترابٍ ما خُلقتم من نارٍ تلظى ولا نورِ السمواتِ
بل ولدتم من وهنِ الرمالِ تنبتون منه الزرع والعمارِ
يُنّزل الماءُ من مزنِ السماءِ منه الحياةِ ومنهما الصّناعِ
كل وطلٍ ولجٍ كالأرواحِ تصوّرنا في الركودِ والأمواجِ
لا تغرنكم جناتٌ ولا بنيانِ فالرياحُ لاحقاتٍ مقدماتِ
لا مهرب من ذارياتِ الزمانِ لا زهرٌ ولا برجٌ الا وهو فان